"شلل الأطفال" في غزة.. الحرب تستحضر "شبح العجز" بعد غياب نحو 4 عقود
عقب الإعلان عن رصد الفيروس
فوق ركام وأنقاض الدمار في غزة والممتد منذ نحو 10 أشهر، عاد شبح العجز يخيم على أطفال القطاع المنكوب بعد أن فارقه وباء الشلل منذ أكثر من 4 عقود.
وأعلنت وزارة الصحة الفلسطينية في قطاع غزة الاثنين الماضي، أنه "تم رصد الفيروس المسبب لشلل الأطفال من نوع CVPV2 في مياه الصرف بمحافظتي خان يونس والوسطى، وإعلان قطاع غزة منطقة وباء.
ويعود الفيروس وفق البيان الفلسطيني "بعد سنوات طويلة من استئصال مرض شلل الأطفال في فلسطين، ونتيجة الحالة المزرية التي وصل إليها سكان قطاع غزة جراء العدوان الإسرائيلي، نظرا لحرمان السكان من المياه الصالحة للاستخدام، وتدمير البنية التحتية للصرف الصحي، وتكدس آلاف أطنان القمامة، وانعدام الأمن الغذائي، وتكدس السكان في أماكن النزوح القهري".
وقالت الوزارة في بيانها إن "هذا الوضع الجديد يشكل تهديدا صحيا لسكان قطاع غزة والدول المجاورة وانتكاسة لبرامج استئصال شلل الأطفال عالميا"، محذرة من أن برنامج مكافحة هذا الوباء الذي أطلقته الوزارة بالشراكة مع المؤسسات الدولية المعنية وخاصة اليونيسيف ومنظمة الصحة العالمية "لن يكون كافيا".
واعتبرت الصحة الفلسطينية نجاح هذا البرنامج مرهونا بإنهاء العدوان الإسرائيلي وإيجاد حلول جذرية لمشكلة انعدام المياه الصالحة للشرب ووسائل النظافة الشخصية من منظفات ومطهرات وإصلاح شبكات مياه الصرف الصحي وترحيل أطنان القمامة والنفايات الصلبة.
وفي عام 1982، ودعت فلسطين الإصابة بمرض شلل الأطفال، غير أن 10 أشهر من الحرب الإسرائيلية بقطاع غزة أعادت استحضار هذا الشبح الأسود جراء تدمير المستشفيات وتقييد دخول المساعدات الطبية وانعدام اللقاحات، واختفاء أدوات النظافة الشخصية.
القاتل الشرس
ووفق منظمة الصحة العالمية، فإن شلل الأطفال مرض فيروسي شديد العدوى يغزو الجهاز العصبي ويمكن أن يحدث شللاً تاماً في غضون ساعات من الزمن، وينتقل الفيروس عن طريق الانتشار من شخص لآخر بصورة رئيسية عن طريق البراز، وبصورة أقل عن طريق وسيلة مشتركة (مثل المياه أو الأطعمة الملوثة) ويتكاثر في الأمعاء.
وتتمثّل أعراض المرض الأوّلية في الحمى والتعب والصداع والتقيّؤ وتصلّب الرقبة والشعور بألم في الأطراف، وتؤدي حالة واحدة من أصل 200 حالة عدوى بالمرض إلى شلل عضال (يصيب الساقين عادة) ويلاقي ما يتراوح بين 5 و10 بالمئة من المصابين بالشلل حتفهم بسبب توقّف عضلاتهم التنفسية عن أداء وظائفها.
ووفق تلك الحقائق العلمية، "يصيب هذا المرض الأطفال دون سن الخامسة بالدرجة الأولى، ولكنه يمكن أن يصيب أي شخص غير ملقح ضده بصرف النظر عن عمره".
وانخفضت حالات المرض الناجمة عن فيروس شلل الأطفال البري بنسبة تزيد على 99 بالمئة منذ عام 1988، أي انخفض عدد البلدان المستوطنة بالمرض من 125 بلداً إلى بلدين فقط حتى أكتوبر 2023.
وبحسب التقديرات الأممية "طالما يوجد طفل واحد مصاب بعدوى فيروس الشلل، فإن الأطفال في جميع البلدان معرضون لخطر الإصابة بالمرض، وقد يسفر الفشل في استئصال شلل الأطفال من آخر هذه المعاقل العتيدة التي ما زالت موبوءة به عن معاودة ظهور المرض في العالم".
وحتى الآن، لا يوجد علاج لمرض شلل الأطفال ولكن يمكن الوقاية منه عبر تعاطي لقاح يعطى في شكل عدة جرعات يمكن أن يقي الطفل من شر المرض طوال العمر.
ويوجد أكثر من 20 مليون شخص يستطيعون المشي اليوم ممّن كانوا سيُصابون بالشلل، وجرى تلافي وفيات قُدِّر عددها بنحو 1.5 مليون وفاة في مرحلة الطفولة، بحسب التقديرات الأممية ذاتها.
محاصرة الانتشار
ويُرجح تعافي فلسطين من مرض شلل الأطفال بين عامي 1982 و1988، إلا أن رياح الحرب المدمرة تنذر بعودة المرض مجددا وتهدد الدول المجاورة أيضا.
بدوره قال مدير دائرة مكافحة العدوى بوزارة الصحة في غزة الدكتور رامي العبادلة، إنه تم رصد الفيروس المسبب لشلل الأطفال في مياه الصرف الصحي، غير أنه لم يتم اكتشاف حالات مصابة بسبب القيود المفروضة بسبب الحرب، والتي أدت إلى تدهور المنظومة الصحية في القطاع.
وأضاف العبادلة في تصريح خاص لـ"جسور بوست": "هذا الوضع الجديد نذير خطر كبير حيال احتمال انتشار مرض شلل الأطفال بين النازحين في ظل الظروف البيئية الصعبة التي يعيشها سكان القطاع".
وعزا أسباب ظهور المرض إلى "انهيار الوضع الصحي ونقص المياه الصالحة للاستخدام وللشرب، ومواد النظافة الشخصية، فضلا عن تدمير الاحتلال البنية التحتية للصرف الصحي، التي ساهمت في انتشار سيول الصرف الصحي وسط أماكن النزوح مع تكدس آلاف أطنان من القمامة والنفايات بين مراكز الإيواء والنازحين ونقص الغذاء والدواء".
وتوقع الدكتور رامي العبادلة، انتشار المرض سريعا في ظل الظروف الحالية التي تحد من قدرة الطواقم الطبية على رصد الحالات ومواجهتها بفعالية، محذرا من احتمال انتشار الوباء بشكل واسع على الصعيد الإقليمي لأن الأمراض الوبائية لا تمنع الحدود انتشارها.
ورصد العبادلة 9 بنود عاجلة لمحاصرة انتشار المرض سريعا تتمثل في: إصلاح شبكات الصرف الصحي المدمرة، وتوفير الكهرباء والسولار اللازم لتشغيل محطات المعالجة، وتوفير المياه للاستخدام الشخصي ومياه الشرب، وتوفير مواد النظافة الشخصية.
يأتي ذلك إلى جانب معالجة النفايات المتراكمة في أماكن تجمع النازحين، وتوفير الغذاء الصحي، وحماية المنشآت الصحية، وتمكين المواطنين من الوصول لها لتلقي الخدمات الطبية، وتوفير الأدوية والمستهلكات الطبية والمطاعيم (اللقاحات).
وأشار العبادلة بشكل خاص إلى ضرورة عدم تجميع السكان في مكان واحد وتوزيعهم على عدة أماكن، لأن التجمعات تزيد من مخاطر انتشار شلل الأطفال، وذلك لن يحدث إلا بوقف العدوان، بحسب رأيه.
الدكتور رامي العبادلة
مساعٍ دولية
ومع الظهور المخيف لفيروس شلل الأطفال على أنقاض الحرب، أعلن رئيس فريق الطوارئ الصحية التابع لمنظمة الصحة العالمية في غزة والضفة الغربية، أياديل ساباربيكوف: "وجود خطر كبير لانتشار فيروس شلل الأطفال ليس فقط بسبب اكتشافه، بل بسبب الوضع السيئ للصرف الصحي وتلوث المياه".
وأضاف ساباربيكوف: "من المقرر أن تصل فرق من منظمة الصحة العالمية ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) إلى غزة، لتقييم المخاطر المتعلقة باكتشاف الفيروس، وسيتيح ذلك لمسؤولي الصحة إصدار توصيات، بما في ذلك الحاجة إلى حملة تطعيم واسعة النطاق، وكذلك معرفة نوع اللقاح الذي يجب استخدامه والفئة العمرية من السكان التي ستحتاج إلى التطعيم".
وفي حين تشير التقديرات إلى أن 99 بالمئة من الأطفال في الأرض الفلسطينية المحتلة تلقوا الجرعة الثالثة من لقاح شلل الأطفال في عام 2022، فإن هذه النسبة انخفضت إلى 89 بالمئة في عام 2023، بحسب أحدث تقديرات التمنيع الروتيني الصادرة من منظمة الصحة العالمية ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف).
وسبق أن حذرت منظمة اليونيسف، في يناير 2024، أن أكثر من 16 ألف طفل في قطاع غزة معرضون لفقدان لقاحاتهم الروتينية، وأن هؤلاء الأطفال معرضون للإصابة بأمراض خطيرة مثل الالتهاب الرئوي وشلل الأطفال.
وفي ضوء هذه المخاوف، أعلن مدير عام منظمة الصحة العالمية الدكتور تيدروس أدهانوم غيبريسوس، أن المنظمة سترسل أكثر من مليون جرعة من اللقاح المضاد لفيروس شلل الأطفال إلى قطاع غزة.
وقال غيبريسوس يوم الجمعة: "رغم عدم تسجيل أي حالة إصابة بشلل الأطفال حتى الآن، بدون اتخاذ إجراءات فورية سيكون الأمر مجرد مسألة وقت قبل إصابة آلاف الأطفال الذين أصبحوا بلا حماية".
الدكتور تيدروس أدهانوم غيبريسوس
وأشار إلى أن الأطفال دون سن الخامسة هم الأكثر عرضة لخطر الإصابة بهذا الفيروس، وخصوصا الرضع دون سن الثانية بسبب تعطل حملات التطعيم العادية نتيجة الحرب المستمرة منذ 10 أشهر.
ووفق المسؤول الأممي، سيتم توزيع جرعات اللقاح على مدى الأسابيع المقبلة لمنع إصابة الأطفال بالعدوى بعد رصد الفيروس في عينات من مياه الصرف الصحي بالقطاع، دون أن يوضح كيفية ذلك في ظل القيود الإسرائيلية المفروضة على غزة.
فيما قالت منظمة الصحة العالمية فى بيان الجمعة: "وجود فيروس شلل الأطفال يزيد ويعقد التهديدات المتعددة التي يواجهها الأطفالُ في قطاع غزة في الوقت الراهن، بعد أن كانوا يحصلون على خدمات تطعيم روتينية نشطة ومنتظمة في ما قبل الحرب".
وأشار بيان المنظمة إلى "تعهد العراق والأردن والسعودية وسوريا بتقديم الدعم التقني واللوجستي والمختبري للاستمرار في اختبار العينات البشرية والبيئية من قطاع غزة".
بدوره، طالب وزير الصحة في الأرض الفلسطينية المحتلة الدكتور ماجد أبو رمضان، دعم الدول لبناء قدرات الترصُّد الميداني لضمان الكشف الفوري عن أي وجود لفيروس شلل الأطفال في غزة، إضافة إلى الدعم المختبري لفحص العينات البيئية والبشرية في البلدان المجاورة في إقليم شرق المتوسط.
الدكتور ماجد أبو رمضان
وفي يوليو الماضي، استبق الجيش الإسرائيلي تقارير رصد فيروس شلل الأطفال، وقال في بيان إنه "أخذ عينات للفحص في مناطق متفرقة من غزة وتم العثور على آثار لفيروس شلل الأطفال المعدي من خلال الشرب أو ملامسة الفم للمياه المتأثرة".
وأضاف البيان آنذاك: "في أعقاب ورود هذه المؤشرات، تقرر لدى جيش الدفاع وبالتنسيق مع وزارة الصحة تطعيم القوات المناوِرة من الفيروس من أجل الحفاظ على صحة جنود جيش الدفاع ومواطني إسرائيل".
وزعم البيان الإسرائيلي أنه "منذ نشوب الحرب تم إدخال نحو 300 ألف لقاح مضاد لشلل الأطفال إلى قطاع غزة والتي تكفي لأكثر من مليون مواطن بالتعاون مع المنظمات الدولية"، فيما ينفي الجانب الفلسطيني حدوث ذلك جملة وتفصيلا، محملا إسرائيل مسؤولية انتشار مرض شلل الأطفال.
ولا تزال إسرائيل -وفق مراقبين- تعطل مسار المفاوضات بشأن توقف الحرب بغزة وفتح المعابر لدخول المساعدات الطبية التي تعول عليها منظمات وجهات صحية عديدة لمواجهة شبح القاتل الصامت الجديد الذي يهدد أرواح 19 ألف طفل في قطاع غزة على الأقل، وفق تقديرات غير رسمية.